كيف يمكن فهم خطاب وممارسات حركة طالبان؟

كيف يمكن فهم خطاب وممارسات حركة طالبان؟

لم تنشأ حركة طالبان في أفغانستان بغتة، ولم ينبع ما فعلته في الأيام الأخيرة من عودتها للحكم بعد الانسحاب الأمريكي، من فراغ، فهي مسنودة إلى أيديولوجيا مستمدة من روافد عدة، تحفظ لتنظيمها تماسكه، وتشكل الإطار العام لمساعيها في سبيل بلوغ أهدافها المتعددة، الظاهر منها والمستتر، والتي تسعى إلى تحقيقها بالتتابع، وبعضها يتشابه أو يتطابق مع الأهداف الكبرى للجماعات السياسية الإسلامية، وبعضها يختلف اختلافاً متفاوتاً. 

النشأة التنظيمية:

تعود نشأة حركة طالبان إلى الثمانينيات من القرن العشرين على يد المخابرات الباكستانية، التي سعت إلى تكوين تنظيم قوي يعتمد بالأساس على قبيلة البشتون، كي يواجه القوات السوفييتية التي اجتاحت أفغانستان عام 1979. لكن طالبان لم تدخل إلى الساحة الأفغانية، كفصيل مقاتل إلا عام 1994 بعد اضطراب الأحوال إثر دخول “المجاهدين”، الذين أجبروا السوفييت على الرحيل، في حرب أهلية طاحنة صراعاً على الحكم والنفوذ.

وقد تمكنت طالبان، التي تعني “طلاب العلم”، من دخول كابول عام 1996 وسيطرت على الحكم حتى أُزيحت عنه عام 2001 على يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، الذين سبق لهم لعب دور كبير في تكوين طالبان نفسها تمويلاً وتدريباً، في إطار الصراع الأمريكي – السوفييتي الذي ساد عقوداً ضمن ما عُرف بـ “الحرب الباردة”.

وإذا كانت طالبان تعتمد على البشتون، الذين يشكلون 45% تقريباً من جملة سكان أفغانستان، فإن بها مكاناً لعرقيات أخرى، مثل الطاجيك والأوزبك والشيشان، لكن بأعداد قليلة.

ويأخذ تنظيم طالبان صيغة تراتبية، على رأسها زعيم الحركة الذي يُلقب بـ “أمير المؤمنين” وهو حالياً (الملا هيبة الله أخوند زاده)، يتبعه “مجلس الشورى المركزي”، وبعده “مجلس الشورى العالي”، ثم “دار الإفتاء المركزي”، وتليه “مجالس الشورى في الولايات” التي تتبعها “القيادات العسكرية”.

الأفكار الدينية:

يتمسك المنضوون تحت لواء حركة طالبان الأفغانية برؤية دينية تكونت عبر قرون طويلة، آخذة من روافد شتى، تداخلت واختلطت وتفاعلت حتى أنتجت ما يعتنقه الطالبانيون من أفكار. فقادة الحركة ينتمون إلى المدرسة الديبونية، وهي تأسست في مدينة ديبوند الهندية، حيث توجد الجامعة الإسلامية التي يعود إنشاؤها إلى عام 1283 هـ، وتُعرف باسم “أزهر الهند”. 

وقد تمكنت هذه المدرسة من جذب طلاب من الهند وباكستان وأفغانستان. وتؤمن هذه المدرسة بمسألة “وحدة الوجود” التي تحمل تأثراً بأفكار هندوسية وإغريقية قديمة، ويعتقد فيها تيار من المتصوفة. وتعد الديبونية اتجاهاً جامداً يرفض التجديد، ويعتبر كل نزوع إليه من قبيل “البدع”، وهي لا تنشغل بالقضايا الكلية المتعلقة بالله والطبيعة والإنسان، بل تنزل إلى تفاصيل صغيرة من قبيل تحريم الفنون بمختلف أنواعها، ورفض عمل المرأة إلا لضرورة قصوى، وضرورة إطلاق اللحى.

وتتكئ طالبان على “المذهب الحنفي” وتتأثر أيضاً بأفكار “جمعية علماء الإسلام” التي يقوم عليها اثنان من علماء الدين هما سميع الحق وفضل عبدالرحمن، ومذهبها العقدي هو “الماتريدية” التي أسسها أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ)، أحد أعلام أهل السنّة. وبذا تبدو طالبان في التصور الأخير لفكرتها هي جماعة أو فرقة أو تنظيم يدين بالإسلام ديناً، ويعتقد في “الماتريدية” ويعد أتباعه في الوقت نفسه من “أهل السُنة والجماعة”، يطبقون “المذهب الحنفي” ويقتربون من “الأشاعرة”، ويسلكون طريقهم كمتصوفة، فيكون زعيمهم أشبه بشيخ الطريقة وأتباعه هم مريدوه الذين يدينون له بالطاعة.

وهذه الفكرة التي تعشش في أذهان الطالبانيين ونفوسهم تجعلهم يختلفون عن الفرق والتنظيمات السياسية الإسلامية السُنية الأخرى ومنها داعش والقاعدة وغيرها، إذ إن الأخيرة تنتمي إلى ما تُسمى بـ “السلفية الجهادية”، التي إن كانت بعض فصائلها قد لاذت بطالبان، أو تحالفت معها لاسيما بعد تأسيس تنظيم القاعدة عام 1998، فإنها تنظر إليها باعتبارها فرقة مبتدعة، لأنها تبتعد عن الخط السلفي الجهادي الذي يتأسس على جذور في فكر الخوارج، وصولاً إلى التنظيرات الجديدة مثل “معالم في الطريق” لسيد قطب، و”الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج، و”إعداد العدة” و”الجامع في طلب العلم الشريف” لسيد إمام، المشهور باسم الدكتور فضل، و”إدارة التوحش” المنسوب لأبي بكر ناجي، وهو الإطار الفكري لداعش.

الأهداف السياسية:

لم يبايع الطالبانيون عام 1994 الملا محمد عمر، مؤسس الحركة، على “الجهاد” ضد السوفييت، أو التدخل لإنهاء الحرب الأهلية وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع أفغانستان فقط، بل أيضاً على تنفيذ تصور ديني واجتماعي، تسوقه الحركة على أنه قادر على التصدي لفساد المجتمع وإقامة دولة أو إمارة إسلامية، وتعتبره هو “دين الله”، حسبما جاء في قول الملا عمر: “نريد تطبيق دين الله في أرضه ونريد خدمة كلمة الله، ونريد تنفيذ الأحكام الشرعية وحدود الله”.

وهذه اللافتة العريضة التي شملها هذا القول حددت إلى حد كبير أهداف طالبان، فكانت هي: إقامة حكومة إسلامية، والعمل في سبيل أن يكون الإسلام هو دين الشعب والحكومة، وسن قوانين وتشريعات نابعة من الشريعة الإسلامية بغية تنظيم حياة المجتمع، وإنشاء محاكم شرعية تكون لها اليد الطولى على مؤسسات الدولة كافة، وتعيين علماء أكفاء أتقياء على رأسها، والنهوض بالحسبة أو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي تنشأ لها هيئات في جميع أنحاء البلاد، وجعل الالتزام الديني أو التقوى معياراً أساسياً في اختيار من يتولون المناصب الحكومية المهمة، وأن تكون المرجعية المُحال إليها في مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية هي القرآن الكريم والسُنة النبوية، وإقامة علاقات سياسية حسنة مع الدول الإسلامية تمتثل لـ “القواعد الشرعية”، ومد جسور التعاون مع الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتكوين جيش قوي مدرب للدفاع عن الدولة في وجه الطامعين من الخارج، إلى جانب بعض القضايا الاجتماعية، ومنها التصدي للعصبيات القبلية والقومية، وإلزام المرأة بالحجاب، ومكافحة المخدرات، ورفض الفنون، وجمع الزكاة وإنفاقها في مصارفها الشرعية. 

ملاحظات ختامية:

حتى يكتمل هذا التناول المركز أو المختصر لأفكار وأهداف وتكوين حركة طالبان، لا بد من إبداء ثلاث ملاحظات هي:

1- على الرغم من تعدد الروافد التي نهلت منها حركة طالبان، فإنها اختارت من بينها “النسخة” الأكثر محافظة، فأفكارها إن كانت تراوح بين صوفية وأشعرية، فإنها لا تأخذ منها إلا كل تصور تقليدي يتسم بالجمود، بدعوى أن هذا هو منهج “أهل السُنة والجماعة”. وبالرغم من أن المذهب الحنفي فيه اتساع لتعدد الآراء، وفق الرؤية الفقهية لمؤسسه الإمام أبي حنيفة النعمان، فإن مجرد التمسك به كما ورد عند صاحبه، والثبات عند الزمن الذي أُنتج فيه، هو في حد ذاته ينطوي على مخالفة لهذا النهج الذي قصده أبو حنيفة، وهو من كان يعرف أن المقولات تتغير، لأنها إجابات على أسئلة متجددة بتبدل الظروف والأحوال وشؤون الناس وشجونهم، وكان معنياً أكثر بوضع طرائق للفهم والاستنباط وليس التمسك بأحكام واعتبارها ثابتة عبر الأزمنة والأمكنة.

2- قد لا يختلف بعض التيارات الإسلامية مع الأهداف التي حددتها حركة طالبان لنفسها، لكنها تظل في خاتمة المطاف مجرد غايات عامة، فإن نزلنا بها إلى التفاصيل أو الفروع، أو نظرنا في أساليب ووسائل تحقيقها، يتضح لنا أن الحركة لا تختلف عن غيرها في التصرف على أساس اعتقاد في أنها هي “الإسلام الصحيح” وأن ما عداها ليس كذلك، شأنها في هذا شأن فصائل “الإسلام السياسي”. وعلى هذا الأساس حاربت طالبان الكثير من الفصائل الإسلامية في الفترة من 1994 حتى تمكنت من دخول كابول وإعلان “إمارة إسلامية” عام 1996 كانت هي الأولى لها.

3- إن حماس بعض التنظيمات والجماعات السياسية الإسلامية للانتصار الذي حققته حركة طالبان في أفغانستان مؤخراً بعد 20 سنة، لا يعني تماهيها مع المشروع الطالباني، أو نزولاً عليه، ورضوخاً له، ورضاءً به، فطالبان لا تزال تمثل بالنسبة لغيرها من جماعات ما يُسمى بـ “الإسلام السياسي”، خاصة السلفية الجهادية، جماعة مختلفة، بل مبتدعة. 

لكن هذا الحماس مرده إلى التصور الدائم لهذه الجماعات في أن المسلمين يتعرضون لحرب جديدة من الغرب وأن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان هو حلقتها الراهنة، وأن طالبان كانت تقاتل نيابة عن الجميع. كما أن الجماعات السياسية الإسلامية رأت فيما فعله الأمريكيون رسالة بليغة إلى أنظمة حكم تناصبهم العداء لها تحالف أو صداقة مع الولايات المتحدة أو تحظى بحمايتها، وكذلك إلى نخب تصفها هذه الجماعات بالمتغربة أو العميلة، على غرار النخب الأفغانية التي لم تحمها واشنطن في النهاية. والأهم من كل ذلك هو أن هذه الجماعات وجدت فيما فعلته طالبان شيئاً ملهماً لها، في إمكانية حيازة السلطة عبر رفع السلاح.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية